إسرائيل- الحرب على غزة بين الأسرى والإبادة وتكريس الهيمنة.

تدعي إسرائيل أنها استأنفت عدوانها الشرس على غزة بسبب رفض حركة حماس الاستجابة لمطلبها بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها.
إلا أن هذا الادعاء لا يمثل سوى ترويج دعائي زائف ومضلل، حتى وإن لقي دعمًا من الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تنفك تقدم دعمها المطلق للحرب الإسرائيلية على غزة، سواء في بدايتها أو خلال استمرارها أو عند تجددها، ولا يوجد أي اختلاف في هذا الدعم بين إدارتي بايدن وترامب.
يكفي أن نتذكر أن إسرائيل قد استعادت بالفعل عددًا كبيرًا من أسراها من خلال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وليس عن طريق العمليات العسكرية. كما لا ينبغي أن نغفل التصريحات التي أدلى بها وزير الحرب الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، والتي أكد فيها أن الاتفاق الذي تم إبرامه مع حركة حماس في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2025، كان من الممكن التوصل إليه قبل ذلك بأشهر طويلة، وبشروط أفضل بكثير لصالح الإسرائيليين، لولا التعنت والعناد الذي أبداه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وإذا أضفنا هذه التصريحات التي أدلى بها غالانت إلى السلوك الإسرائيلي التصعيدي منذ إبرام هذا الاتفاق، فسوف يتأكد لدينا أن إسرائيل لم تكن ترغب سوى في استعادة أسراها، ثم معاودة شن الحرب على غزة بطابعها الإبادي المتطرف. فقد امتنعت إسرائيل عن الالتزام بالبنود الأساسية التي نص عليها الاتفاق، مثل إدخال المساعدات الإغاثية والإنسانية، وتوفير المساكن المؤقتة للنازحين، والشروع في مفاوضات المرحلة الثانية، والتي كان من المفترض أن تؤدي، بحسب الاتفاق، إلى إطلاق سراح بقية الأسرى الإسرائيليين، وذلك استنادًا إلى أسس تفاوضية جديدة ومختلفة عن تلك التي تم اعتمادها في المرحلة الأولى.
ولم تكتفِ إسرائيل بالتقاعس عن تنفيذ التزاماتها واستحقاقات المرحلة الأولى من الاتفاق، بل عمدت، بعد استعادة العدد الأكبر من أسراها، إلى إفراغ الاتفاق من محتواه وجوهره بوصفه اتفاقًا لوقف إطلاق النار، وتحويله إلى مجرد صفقة لتبادل الأسرى لا يترتب عليها أي وقف لإطلاق النار أو انسحاب للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وقد تلقت إسرائيل دعمًا كاملًا من الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المسعى.
ويتأكد بهذا أن المشكلة طوال فترة الحرب كانت تكمن في الإرادة الإسرائيلية الصلبة التي تفصل بشكل قاطع بين ملف الأسرى واستمرار الحرب. فإسرائيل ترغب بشدة في استعادة أسراها، ولكن دون أن تضطر إلى وقف الحرب. وحتى لو تنازلت حركة حماس عن جميع الأسرى الإسرائيليين، بشرط وقف الحرب فقط، ودون أي مطالب بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، فإن هذا العرض لن يكون مقبولًا من الجانب الإسرائيلي على الإطلاق، وقد تجسد هذا الأمر وتأكد بجلاء، حتى أصبح حقيقة دامغة للعيان.
وهو الأمر الذي يستدعي إعادة تقييم شاملة للحرب والنوايا الإسرائيلية تجاهها، بمعزل تام عن سلوك حركة حماس وخياراتها المتاحة. فإسرائيل لا تريد أن تترك للفلسطينيين أي خيارات على الإطلاق، ولا حتى خيار الاستسلام. ويضاف إلى ذلك المسألة المتعلقة بما يسمى "اليوم التالي". فقد وافقت حركة حماس على المقترح المصري الذي ينص على تشكيل لجنة دعم تتولى إدارة شؤون قطاع غزة، على ألا تكون حماس جزءًا منها. كما قدمت الدول العربية خططًا مفصلة لإعادة إعمار غزة، إلا أن الرفض القاطع يأتي من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وربما من بعض الدول الإقليمية التي لا ترحب بإنهاء الحرب دون تحقيق هزيمة قاطعة وساحقة لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية، هزيمة لا تدع مجالًا للشك أو اللبس!
وبغض النظر عن الوتيرة والأدوات المستخدمة، فقد ظلت أدوات التجويع وحرمان الفلسطينيين من أساسيات البقاء على قيد الحياة هي السياسة المعتمدة من قبل إسرائيل طوال المرحلة الأولى من الحرب. ومن المؤكد أنها كانت ستستمر في سياسة الابتزاز الرخيص باستخدام المساعدات الإغاثية، وتوفير المساكن المؤقتة، وإعادة الإعمار، في حال استمرار الاتفاق، وهي إجراءات عدوانية ذات طابع حربي لا تنفك عن سياسات الإبادة والتهجير القسري.
لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل السياسة الإسرائيلية في قطاع غزة عن المشهد الإقليمي الأوسع. فإذا كانت إسرائيل تنتهج سياسة التوسع والتوغل في الأراضي السورية واللبنانية، مع استمرار عدوانها السافر على هذين البلدين، وبالرغم من أن الإدارة الجديدة في سوريا ليس لديها أي تاريخ من الاشتباكات مع الاحتلال الإسرائيلي، وأبدت في بعض الأوقات تحفظًا حتى عن توجيه انتقادات خطابية لاذعة للعدوان الإسرائيلي على سوريا، لدرجة أن بعض المقربين منها وصفوا موقفها بالمبالغ فيه والإفراط في الطمأنة، فكيف يمكن لإسرائيل أن تنسحب في هذه اللحظة التاريخية الفارقة من قطاع غزة؟!
لقد قامت السياسة الإسرائيلية الاستعمارية تاريخيًا على فرض الوقائع على الأرض وتكريسها، ثم الارتكاز إلى هذه الوقائع في أي جهد لاحق، سواء كان حربيًا أو تسوويًا.
وإذا كانت هذه هي السياسة الإسرائيلية المعتمدة في المنطقة بأسرها، فكيف الحال في الضفة الغربية المحتلة، التي تقود فيها إسرائيل حملة أمنية وعسكرية مكثفة تتسم بالعمق والتوسع، وأدت إلى تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من المخيمات الواقعة في شمال الضفة الغربية، دون أن يواجه ذلك أي معارضة جادة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وبما أن عمليات الإبادة الجماعية التي ترتكب في غزة على مدار خمسة عشر شهرًا لم تواجه بمعارضة إقليمية ودولية حقيقية، وبالتالي لم يتم التصدي لسياسات التهجير والتدمير الممنهجة في الضفة الغربية، بالرغم من انتفاء ذريعة حركة حماس وأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكل الادعاءات والدعايات الإسرائيلية التي تم التأسيس عليها لشن حرب الإبادة على غزة، فإن العودة إلى الحرب على غزة أمر وارد وممكن، مهما كانت التكلفة الباهظة التي سيتكبدها سكان غزة. فقد استشهد في غضون ساعات قليلة أكثر من 400 فلسطيني، وأصيب أكثر من 500 آخرين، كما أن الدعم الأمريكي للعودة إلى الحرب بطابعها الإبادي أمر مضمون، كما هو واضح وجلي للعيان الآن.
ولا ينفصل هذا الأمر عن السياسات الإسرائيلية الداخلية، ومنها هروب بنيامين نتنياهو المستمر من الملاحقة القضائية، والمساءلة عن التقصير والإخفاقات التي ارتكبت فيما يتعلق بأحداث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وآخر تجليات ذلك هو صراعه المحتدم مع رئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" رونين بار.
إلا أن هذه الاعتبارات الداخلية لا تمثل سوى جزءًا من مشهد أكبر وأكثر تعقيدًا، وهو صراع اليمين الإسرائيلي المتطرف على الإمساك بزمام الأمور والسيطرة على مفاصل الكيان الإسرائيلي. وهو ما يتطلب التغطية على هذه الصراعات الداخلية من خلال شن هذه الحرب. وبهذا يمكن تفسير عودة حزب "عظمة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير إلى حكومة بنيامين نتنياهو. وقد تبين أن اتفاق العودة هذا قد تم إنجازه بين الطرفين قبل خمسة أيام فقط من استئناف الحرب الإسرائيلية الإبادية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وتتداخل هنا المشاريع الداخلية لليمين الإسرائيلي، والرؤى الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي، مع الهواجس الشخصية لبنيامين نتنياهو، الذي يسعى جاهدًا إلى تحقيق قدر أكبر من الاطمئنان بشأن تماسك ائتلافه الحاكم، بالنظر إلى المخاوف المتزايدة من الأحزاب الحريدية المتحالفة معه، والتي قد تتخذ، أو يتخذ نواب منها في الكنيست، قرارات بالتصويت ضد الميزانية المقترحة أو ضد قانون التجنيد.
لقد شعرت إسرائيل طوال فترة حربها على غزة، ثم نقلها لاحقًا إلى الضفة الغربية، والدفع بها نحو الجوار الإقليمي، أنها تتمتع بحرية مطلقة في التصرف. ففي الوقت الذي استأنفت فيه الحرب الإبادية على غزة، وسعت حملتها الأمنية والعسكرية على شمال الضفة الغربية لتشمل مدينتي نابلس ومخيماتها.
وهو ما يعني أنها قد تنتقل لاحقًا بالكثافة نفسها إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية كانت طوال السنوات الأخيرة أكثر هدوءًا واستقرارًا. وهو أمر يندرج من جهة في الخطة الداخلية لليمين الإسرائيلي فيما يخص السيطرة المطلقة على مفاصل الكيان، ومن جهة أخرى في الخطة الاستعمارية فيما يخص سياسات الضم والتهجير، ومن جهة ثالثة في الرؤى الاستراتيجية الإسرائيلية التي ترى أن هذه فرصة تاريخية سانحة لتكريس وقائع جديدة على الأرض وتجديد الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. وما دامت إسرائيل تتمتع بهذه الحرية المطلقة في التصرف، فما الذي يمنعها من تجديد حربها العدوانية، وما الذي يحول دون أن يستخدم نتنياهو دماء الغزيين الأبرياء لتقوية تحالفه السياسي الهش وتمرير قانون الموازنة المثير للجدل؟!